نجلاء سعيد
معاناة طفولة تخلق الإبداع

وُلِدت من أبوين عربيين، نشأت وترعرعت في شمال غرب مدينة مانهاتن في الولايات المتحدة، الأمر الذي وضعها في صراع دائم حول هويتها وانتمائها، وهي الآن الممثلة والكاتبة المسرحية الناجحة بالفرقة المسرحية "أوف برودواي" تعبر بكل حرية عن أحاسيسها على خشبة المسرح لتحطم الصورة النمطية التي لطالما رُسمت عن المرأة العربية.

تنحدرُ نجلاء من أصولٍ عربيةٍ لأُمِّ لبنانيةٍ وأبٍ فلسطينيّ. كان والداها من نشطاء حقوق الإنسان، شديديّ الإعتزاز بالقومية العربية. وُلِدت نجلاء قبل قيام الحرب الأهلية في لبنان بعامٍ واحد، وعاشت طفولة مشحونة بالحيرة حول ما يجري هناك، فحياتها في أميركا جعلتها تتسائل أين عاش جميع أفراد عائلتها، وأين يقع مكانها في الصورة كمواطنة أمريكية من أصولٍ عربية، كبرت و هي لاتعرف كيفية تحديد الى أي جانب تنتمي، في الوقت الذي أخذت تتسع فيه الحرب الأهلية في بلدها لبنان، مع أنها أرادت أن تحيا حياة طبيعية دون أن تكون لديها خلفية مثيرة للجدل حول طفولتها.

وكأيِّ عربية أمريكية، كانت نشأتها قاسية في بعض الأحيان، بسبب ما كان يجري في العالم خلال فترة نموها، إلاَّ أنَّ شعبية والدها كونهُ ناشط ومفكر، و أيضاً طبيعة عائلتها المسيحية التي لم تَبْدُ أنها تنتمي لأيٍّ من الأنماط التي ربطها الأمريكيون بالعرب، ساعدها بعض الشيء، فهي عائلة علمانية كما تقول نجلاء : "نحن لبنانيون نتحدث العربية والإنجليزية وأخيراً نحن مسيحيون فلسطينيون. وكان والدي طالباً بارزاً في أدب اللغة الإنجليزية، وكثيراً ما كان يذكر الناس أشياء شديدة التعصب حول العرب بوجودي ثم يستدركون قائلين "آه.. لستِ أنتِ المقصودة، فأنت مختلفة"، كان هذا من شأنه أن يدفعني إلى الجنون، ولأصدقكم القول كان يجرحني ويسبب لي الكثير من الشك الذاتي وفقدان الأمان".

خجلها الشديد خلال طفولتها جعلها قليلة الكلام دونما سبباً واضحاً لذلك، و وجود أخاها الأكبر وديع أعطاها سبباً أكبر لقلة الكلام مما دفع والديها لإشراكها بأحد برامج التمثيل المسرحي المدرسية لإخراجها من عزلتها و خاصةً أن موهبتها التمثيلية قد بدأت بالظهور مبكراً، فهي تقول: "لطالما كانت تراودني أحلام يقظة وكنت ألعب وأُمَثِّل أمام نفسي، كنتُ أتحدَّثُ إلى أشخاصٍ خياليين أكثر من الأشخاص الحقيقيين"، حضورها لفصول التمثيل بسن الثامنة فتح عيناها على المسرح وأصبح هوايتها الأساسية خلال المرحلة الثانوية والجامعة. لطالما رغبت بأن تصبح ممثلة ولكن شدة خجلها جعلها تعتقد بأنها فكرة غير ناضجة بعد، ولكن الأمر كان على النقيض تماماً؛ نجلاء أحبت الإحساس بالحرية الذي منحه إياها وجودها على المسرح.
برأي نجلاء أن التمثيل بحد ذاته لا يكفي لمواجهة متطلبات الحياة، لابدَّ للفنان من أن يمتلك مصدر رزق آخر الى جانب التمثيل. فهي بدأت بدراسة "البيلاتيس" منذ 15 عام، وذلك بناءً على طلب أحد مدرسيها في التمثيل، وكانت تلك تجربة فريدة في حياتها وصفتها قائلةً: "قد غيرني ذلك تماماً على المستوى البدني، وأعتقد أن الكثير من الناس لا يفهمون أن الممثل المسرحي لا بد أن يكون على قدر عالي من اللياقة البدنية، لذا أحببته كثيراً ولأنني غير اجتماعية وأحقق أكثر مما هو متوقع بطبيعة الحال، فقد حصلت على شهادة اعتماد بتدريسه".

نجلاء كانت ترى نفسها دائماً على أنها كاتبة أيضاً، وتقوم حالياً بوضع اللمسات الأخيرة لمسوّدة مذكراتها التي تتحدث فيها عن نشأتها كفتاة عربية في المجتمع الغربي.

و ممَّا أثر بحياة نجلاء ايضاً، انها ابنة لشخصية شعبية ومحبوبة، وتمتلك الكثير من القيم النبيلة، ولكن لم يكن ذلك التأثير إيجابياً بشكلٍ دائم، وقد ظهر ذلك حين قالت: "حتى أكون صادقة، قد يصبح الأمر متعباً أحياناً و مشوقاً أحياناً أخرى، فعندما تنشأ مع شخص -وهو والدك- وتعلم من خلال الآخرين (بعد وفاته) أن العديد من الأشخاص معجبون به إعجاباً شديداً، فحقاً إنه شعور غامر، وأنا لا أعرف إدوارد سعيد على المستوى الشعبي، ولكنني على وعي تام كيف كان يحتفي الناس به، لقد عرفت أبي، الإنسان! فأنا ابنته، اهتماماتي وطريقة تفكيري، إحساسي بالتعاطف ومناصرة حقوق الإنسان، عدم قدرتي على السكوت عن الظلم والكراهية والعنف والحرب... كلُّ ذلك قد اكتسبته من والدي ووالدتي.

كما إنني أتعامل مع أصدقائي وعائلتي بالطريقة التي يشتهر بها العرب؛ بالتبجيل، والاحترام، والدفء التام، وتلك الأمور هي أكثر ما أعتز به.

أظهرت نجلاء من خلال أدوارها التمثيلية، ميلها الواضح الى تصوير المرأة العربية تصويراً ذكياً، وكان لها رأي خاص حول ذلك باعتبار أنَّ المسرح والتليفزيون من وسائل الإعلام المرئية، وبسبب الحاجة إلى السرعة في إنتاج الأعمال و الخروج بها سريعاً إلى النور أمام العالم، فإنَّه في بعض الأحيان يُنَحَّى التمثيل الدقيق جانباً وذلك لأنه من الأسهل اتباع العبارات المجازية والأنماط المعروفة، وحتى وقت قريب، كان هناك قِلَّة قليلة من الشخصيات داخل سيناريو المسرحيات والأفلام ممن لديهم أصول شرق أوسطية، وتغيَّر ذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول التي تعرَّضت لها الولايات المتحدة ، حيثُ بُذِلت جهودٌ عظيمة من قبل الفنانين لتصوير العرب والأمريكيين العرب بأسلوبٍ غاية في الدقة. وبالرُّغم من ذلك، بقيت بعض الأمور على ما هي عليه، فكانت الأدوار الرئيسة التي يحصل عليها الممثلون الشرق أوسطيون تتمثل في أدوار "الإرهابيين" و كانت الأدوار متاحة أمام الممثلين الذكور فقط، كما كُتبت الأدوار التي كان يؤديها الممثلون العرب في السيناريوهات بالمزيد من العناية والدقة، وظلَّت الممثلات العربيات بعيداتٍ عن الأضواء.

وكان الإعتقاد الشائع حول النساء العربيات أنهنَّ يرتدينَ جميعهنَّ الحجاب، ويتسمنَ بالغموض الشديد، والجاذبية والطاعة، ولكن حسب رؤية نجلاء: "النساء العربيَّات اللاَّتي أعرفهنَّ يتسمن بالتنوع، والإثارة والاستقلالية التامة كسائر من يحيا على هذه الأرض، و أعتقد أنني تأثرت كثيرًا بإلحاح والدي بأن "أروي قصَّتي الخاصة"، وأدَع الناس يُكَوِّنُون فكرتهم الخاصة عني، إضافةً إلى ذلك، التَحَقَت كُلٌّ من جَدَتَيَّ بالجامعة، بل سافرت إحداهُنَّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثينيات من القرن العشرين لتحضير الدكتوراه، وكانت كلتاهما شديدة التمسك برأيها، وذكية، وواسعة الاطلاع، وقاسية وعلى العكس تمامًا مما نشاهده باستمرار في الأفلام وعلى المسرح، لذا غدا من المهم بالنسبة لي أن أتحدث أثناء البروفات وتجارب الأداء حول مواطن الدقة وعدم الدقة فيما يمثل المرأة العربية، وهو ماكان يقدره المخرجون والكتاب المسرحيون.

استلهمت نجلاء وحيها الفني من الحياة الواقعية، فهي كثيراً ما تجد نفسها مستغرقة في الكتابة عن المفارقات، والتعبيرات الساخرة، والأمور السخيفة التي تصيب بالإحباط والحيرة.

أما فيما يتعلق بالتمثيل فقد أحبت الدور الذي أدته في مسرحية "تسعة أجزاء من السعادة" للفنانة (هذر رفو) بمسرح سياتل ريبرتوري في عام 2006، فقد كان ذلك عرضها المنفرد الأول، وهو ما منحها الكثير من الثقة والسعادة كما قالت: "أقف على خشبة المسرح، بمفردي، في أحد المسارح الأمريكية الكبرى، معبِّرة عن تسعة من النساء العراقيات المتميزات من وحي الخيال، واللاتي نُحِتن بمهارة فائقة وأُسْبِغَت عليهنَّ الصفة البشرية من خلال كتابة (هذر) المفعمة بالحياة والشديدة الروعة، فقد نجحت في تصويرهنَّ بحرفية شديدة و نيل استحسان الجماهير. لقد منَحَتْها الشجاعة لكتابة قصتها الشخصية، فالطريقة التي تلقَّى بها المشاهدون مسرحية (هذر) قد منحتها الثقة بأنَّ الناس سينصتون إذا ما أخبرتهم بقصتها، وقد حدث ذلك بالفعل مع مسرحية نجلاء التي تحمل اسم "فلسطين".

أكثر الأمور إثارة للتحدي لا تتغير أبداً: "فكونك فناناً يعني الصراع الدائم من أجل جني الأموال والسعي الدؤوب للحصول على عمل، حتى إن اضطررت إلى كتابته بنفسك، فاستيعاب فكرة استقبالك كممثلة عربية أمريكية فقط لطالما كان بالأمر المرهق، وكذلك التوضيح أمام الناس أنه ليس لمجرد أن والدك كان مشهوراً، أو أنك تتمتعين بالرقة والموهبة والعمل الشاق والجمال أو أيٍّ من المقومات الأخرى، فهذا يعني أن الأمور تأتي طواعية إليك".

من أهم محطات نجلاء الفنية كانت مسرحيتها "فلسطين" والتي كانت تعتبرها واحدة من أعظم تجارب حياتها، وهو الأمر الذي كان يشعرها ببعض الخوف، الذي سرعان مازال وتحول الى متعة كبيرة لها، فتقول: "فلسطين كانت قصة شخصية، وصادقة، وصريحة ومرعبة أيضاً، فلقد أسعدني إحساسي بوجود والدي إلى جانبي على خشبة المسرح كل ليلة، وفي ذات الوقت كان يجعلني شديدة الإضطراب، فإعادة تجربة القنابل وفقدان الشهية والألم ووفاة والدي كل ليلة لمدة ستة أسابيع كان حقاً يرهقني بدنياً وعاطفياً"، كما أنَّ إجراء المقابلات بشكل متواصل ورغبة الناس الدائمة في التحدث إليها كان أمراً شديد الصعوبة، وهي بطبعها شديدة الخجل.

كانت نجلاء قلقة حول تجاوب الناس مع مسرحيتها، وهو الأمر الذي خشيت أن يؤثِّر على رسالتها لهم، وقد تحدَّثت عن ذلك بشكل مؤثر: "أردتُ فقط أن يسمعني الجمهور، وأردت أن أروي قصتي، لقد سُمِعْتُ وحصلتُ على كل شيء تمنَّيته بل وأكثر من جمهوري".

إحساسُها كان غامراً حيثُ وجد العديد من الشباب مصدراً للإلهام في هذه المسرحية، كما شَعَرَت بأنها مُلزَمة بكتابة أعمالهم الخاصة، فعندما يقول لها أحد الأشخاص "لقد غيَّرتِ حياتي"، أو "لقد أنقذتِ حياتي"، فهذا حقاً غمرها بالرضا بصورةٍ لا يمكن أن يتخيلها أحد، و المفاجأة السارَّة كانت عدد الأشخاص الأكبر سناً ممَّن يحملون الهوية العربية فقط – يعني أنهم ليسوا عرباً أمريكيين أو مجرد أمريكيين صغار في السن- حيث غمرهم شعور بالإعجاب والفخر والسعادة واغرورقت أعينهم بالدموع.
لا تقف نجلاء عند هذه المسرحية بل إنها تفكر بأن تمضي الى أبعد من ذلك في مسيرتها الفنية كتحويل مسرحيتها إلى مذكِّرات، والسفر لأداء مسرحية فلسطين، وتدريس البيلاتيس. كل ما تتمناه هو أن تكون قادرة على دعم نفسها للقيام بما تحب لبقية حياتها.

في النهاية أرادت أن تخبر جمهورها أن لا تتوقفوا أبداً، ولا تستسلموا أبداً، واحتفظوا دوماً بإنسانيتكم.